ذات يوم عصيب
مقالات مختارة | عاطف بشاي
٢٧:
٠٥
م +00:00 UTC
الثلاثاء ٢١ نوفمبر ٢٠٢٣
عاطف بشاي
أكره ذلك اليوم العصيب الذي يداهمنى كل أسبوع تحت اسم «اليوم الرسمى للتنظيف».. مثلما أكره التكفيريين والظلاميين وتجار الدين ومحترفى التحريم والتجريم والوصاية على الآخرين وفرض ثقافة الحلال والحرام، كما أكره اكليشيهات النقاد، مثل إفساد الذوق العام.. وخدش الحياء العام.. وإعلانات التليفزيون وبرامج التوك شو.. وأصحاب البراندات.. وسطوة جماهير الفيسبوك.. والمعلقين الكرويين، الذين ينصبون المبتدأ ويرفعون المفعول به.. كما أكره المتطفلين والمشهلاتية والسماسرة ولاعبى الثلاث ورقات.. و«الحنجوريين» و«المتحذلقين» و«المتشدقين» و«النخبويين» ولابسى المزيكة وكدابى الزفة، والمتسلقين.. ومناضلى اللغو والميكروفونات وكُتاب سيناريوهات الهلس والورش، وعنجهية مدرب الأهلى السويسرى.
استيقظت فزعًا على ضجيج جَرّ قطع الأثاث، وصوت المكنسة وتهشُّم الأكواب بالمطبخ.. واشتباك مشحون بهوس انفعالى وعصاب هستيرى من جانب زوجتى، في مقابل تبلد وجدانى مصحوب ببارانويا الاضطهاد من جانب الشغالة، يشبه ذلك الذي يستشعره جمهور الكرة الزملكاوى تجاه حكام المباريات وغبن اتحاد الكرة، وظلم «الفيفا» وتسلط الشمس الحارقة على وجوه اللاعبين.
هرولت خارجًا من حجرة النوم إلى الصالة، فانزلقت قدماى بسبب المياه والصابون الذي يغمر الأرضية، وهتفت صارخًا في زوجتى كيف وأين أستطيع العمل وسط هذه الفوضى؟!.. لقد منحتنى وزارة الثقافة منحة تفرغ لكتابة رواية، ولم يبقَ سوى شهر واحد منها.. ولم أكتب حرفًا واحدًا.. أفسحت لى حيزًا ضئيلًا من مساحة الكراسى المقلوبة فوق مائدة السفرة، وحذرتنى أن أزعجها بأى طلبات أخرى تعرقل مسار مهمتها الإبداعية المقدسة.. أحسست بالإهانة، وأسرعت بجمع أوراقى على عجل.. وقررت مغادرة المنزل.
ذهبت إلى كافتيريا قريبة، وشرعت في التفكير في استهلال بليغ أبدأ به الرواية.. فجأة، انقض علىَّ رجل (متغضن الملامح- زائغ النظرات بادرنى وهو يمد يده مصافحًا في حرارة):
- إزيك يا أستاذ.. أنا باشَبِّه عليك.. حضرتك نجيب محفوظ.. مش كده؟.
نظرت إليه مأخوذًا ذاهلًا مرددًا:
-لا.. الأستاذ نجيب تعيش انت.
- بس حضرتك كاتب.. مش كده؟!.
- أيوة.
- أنا عندى مشكلة.. ممكن أعرضها عليك؟!.
- أنا ما بحلش مشاكل.. أبعتها لباب مشاكل القراء في الأهرام.
- مش بتقول حضرتك كاتب.. تبقى دماغك كبيرة.
ولم ينتظر حتى أرد عليه، وأسرع جالسًا مرددًا في توتر:
- أنا أعيش مأساة.. فقد تزوجت من امرأة إذا بلعها الشيطان عجز عن هضمها.. إنها نموذج بشع لسوء الخلق والعدوانية والشر.. والشجار والسباب هوايتها واحترافها.. بعد ثلاثة أشهر فقط من الزواج، ضربت رأسها في الحائط، وذهبت إلى قسم البوليس والدماء تغطى وجهها مدعية أننى الجانى.. وبعدها بعدة أسابيع، عدت إلى المنزل، فلم أجدها، ولم أجد أثاث المنزل بأكمله، وأسرعت بتحرير محضر سرقة وتبديد منقولات ضدى.
هتفت مستنكرًا:
- لم يعد سوى الاعتداء عليك بالضرب.. أنا أعلم أن نسبة ضرب الزوجات لأزواجهن زادت في الفترة الأخيرة.
- حصل.. وعملت لى فضيحة في العمارة كلها.
- ولماذا لم تطلقها؟!.
- لأنها رغم كل عيوبها سيدة شريفة.. عفيفة تعرف الحلال والحرام.. غير متبرجة.. ولا خليعة.. ولم يلمسها في حياتها أحد غيرى.
- يا راجل هذه الزوجة بها من العيوب ما يكفى لتطليق عشرات الزوجات من أزواجهن.. المشكلة فيك أنت. أنت شكاك.. سيئ الظن بدرجة يستحيل معها أن تطمئن إلا إذا تزوجت غولة.. لأنك ضعيف الثقة في نفسك، وتتصور أن الزوجات خائنات بالسليقة.. وهذا غير حقيقى.
- أنا مسيحى.. ولا طلاق إلا لعلة الزنى.
عدت إلى المنزل، وقد أضاع الرجل وقتى دون أن يتسنى لى أن أكتب حرفًا واحدًا.. وإن كنت قد تحمست جدًّا لقضيته، وقررت أن أصرف النظر عن موضوع الرواية التي كنت سأشرع في كتابتها.. والبدء فورًا في صياغة هذه التجربة الإنسانية ذات الأبعاد الاجتماعية والنفسية والعقائدية المتصلة بالرجل في رواية تعنى بتفجير قضية مهمة من قضايا الأحوال الشخصية.
واجهت زوجتى بغضب بأن روايتى الطموح لن ترى النور مادمت لا أنعم بالهدوء الكافى والقدرة على التركيز داخل المنزل.. ورجوتها أن توافق على منحى إجازة زوجية لمدة شهر تقضيه في منزل والدها.. فوافقت على مضض.
انتهيت من كتابة الرواية، التي حققت مبيعات ضخمة ونجاحًا أدبيًّا ونقديًّا كبيرًا.. وحصلت بموجبها على الجائزة الأولى في فن الرواية في مهرجان أدبى، وقد سميتها «ذات يوم عصيب»، وفى حفل توقيع الكتاب سجلت معى مذيعة بإحدى القنوات التليفزيونية لقاء سألتنى فيه لمَن تهدى هذه الرواية؟!.
قلت على الفور:
- إلى زوجتى الحبيبة.. أيقونتى الغالية.. درة عينى.. ورفيقة دربى، التي لولا عدم وجودها لما رأت هذه الرواية النور.
نقلا عن المصرى اليوم
الكلمات المتعلقة