زيارة جديدة لنصر حامد أبو زيد

قصة الدكتور نصر حامد أبو زيد هى قصة قهر السؤال، قصة قمع التفكير بالتكفير، هى حكاية تلخص كم يتعرض المثقف فى مجتمعاتنا لاغتيال حلمه وقتل حقه الطبيعى فى البحث وطرح علامات الاستفهام، اتهامات بالردة واغتيال معنوى وشخصنة وخربشات لدرجة النزف بالشتائم والسباب القبيح والتجاوزات الوضيعة والتهديدات الدموية العنيفة، والكارثة فى قصة د.نصر أبوزيد أن كل ما ذكرناه من حرب كانت فى رحاب ومدرجات الجامعة، حيث المفروض حرية البحث وجسارة النقد وشجاعة الطرح وبكارة التأمل هم معيار التقدم والنجاح والترقى، من هذه الزاوية كانت أهمية كتاب «إمام التفكير.. زيارة جديدة لنصر حامد أبوزيد» للدكتور محمد الباز والصادر عن دار مسافات.

 

كتب كثيراً عن نصر أبو زيد، لكن هذا الكتاب يتمتع بأسلوب صحفى يحكى كل التفاصيل برشاقة وجاذبية وكأنها رواية عن سيزيف الاغريقى، أو موال ملئ بالشجن عن أيوب، وكلاهما لم ينفعه الصبر، أو ينقذه العناد، بدأ الكتاب بقصة حدثت فى سوبر ماركت عندما تعرف عليه أحد المواطنين وهاجمه واتهمه بأنه كافر، ودار حوار بينهما، اقتنع الرجل فى نهايته بأن أبوزيد قد ظلم، لكن من أين يتأتى للدكتور نصر فرصة أن يحكى قصته لكل مصرى، بينما النوافذ الإعلامية مغلقة أمامه، ومادام الخذلان من المؤسسات هو الصوت السائد والمسيطر، لدرجة أن رئيس الجامعة انذاك بعد أن أصبح أبو زيد منفياً وحيداً معزولاً، اتهمه بأنه باحث عن المال والشهرة، مفتاح القضية الذى أمسك به المؤلف، هو أن فداحة المصاب، ومساحة الجرح النازف، مصدرها أن د. نصر أبوزيد مؤمن وموحد، هو منتقد من داخل نفس الملعب، ولو كان ملحداً مثلاً، لم يكن ليتأثر بكل تلك الاتهامات والتكفير، إنما الكارثة كانت فى أنه يعزف على نفس الآلة لكن من سلم موسيقى آخر، وبإيقاع مختلف، كان هذا هو سبب العداء فقط، بدأ الكتاب باستعراض طفولة أبوزيد فى قرية قحافة بمحافظة الغربية، حيث حفظ القرآن، وتشبع بالمعانى، وولج إلى الأسرار وتذوق الجمال والبلاغة، لكنه عارض الشيخ الذى كان يتحدث عن العفاريت، فظهر التناقض بين النص وبين فهم النص عبر الوسيط، روح المحارب الصلب تظهر من خلال قصة كفاح أبوزيد الشاب المسئول عن أسرة تيتمت وأم ترملت بعد وفاة الأب، ما بين وظيفة عامل اللاسلكى وطالب الجامعة، كان الحفر فى الصخر، وشق الطريق الصعب وسط عواصف البحث المضنى والسؤال المؤرق، جاءت زيارة اليابان للتدريس بعد التخرج بمثابة صدمة الافاقة، فهذا الشعب وتلك الثقافة التى تعيش دون نص مؤسس، استطاعت أن تمارس حياتها بكل نقاء الضمير وتقديس العمل، كان ولابد من فهم جديد وتناول مختلف ودراسة أعمق لنصنا المؤسس، الذى حال بيننا وبين فهمه جيش من المنتفعين، وأثبتت معركة نصر أبوزيد أن هؤلاء المنتفعين لن يتركوه يطرح أسئلته، فقد أصبح حجم البيزنس أهم من قدسية النص، يحكى د. الباز تفاصيل قضية أبوزيد التى لا تملك أمامها إلا الحزن والغضب، أحياناً تتجمع الدموع فى المآقى وأنت تتابع شراسة المعركة وقساوة أنياب الضباع، وأحياناً تتجمع أصابع يدك قبضة تريد أن تحطم كل الأصنام التى تقتات من الركود والرجعية ودم وروح المفكرين الحقيقيين، يفهم القارئ فى النهاية أن تقرير التكفير الذى كتبه أستاذ أكاديمى كبير كان بسبب أن هذا الأستاذ الذى كان مستشاراً لإحدى شركات توظيف الأموال، غضب مما كتبه أبوزيد عندما هاجم تلك الشركات واتهمها بالنصب!.

 

هناك تفاصيل مخجلة يرصدها مؤلف الكتاب، منها موقف أستاذه الذى أمسك بالعصى من المنتصف، وظل يراوغ بالوسطية المزعومة حتى آخر لحظة، ومنها موقف بعض الصحفيين الذين تلذذوا بالرقص على جثة د. نصر أبوزيد، ومنها موقف الجامعة، لكن يبقى الموقف الناصع الجرىء والشريف لقسم اللغة العربية فى آداب القاهرة الذى دعم وساند أبوزيد حتى اللحظة الأخيرة، لكن الصدمة الحقيقية جاءت من رجال مهمتهم الحفاظ على القانون، رفعوا قضية حسبة للتفريق بين أبوزيد وزوجته د. ابتهال، والمصيبة أنهم كسبوا القضية فى الاستئناف، وصدر الحكم رغم أن الدولة سارعت لتغيير قانون الحسبة وجعله من حق النيابة فقط، إلا أن ما حدث من تزييف لوعى الرأى العام بواسطة سماسرة ومنتفعى تجارة الدين كان قد وصل إلى الذروة، أجمل ما فى الكتاب هو أنه لم يعرض لنصر أبوزيد الأكاديمى صاحب الأبحاث العلمية والدراسات الإسلامية والقرآنية فقط، ولكنه قدم لنا نصر أبوزيد فى لحظات حبه وعشقه وانكساره وانتصاره، خطاباته الغرامية، غياب الكيمياء بينه وبين زوجته الأولى، صدمة اكتشافه لعدم قدرته على الانجاب، علاقته بأبيه وأسرته، خذلان بعض أبناء قريته الذين كانوا يعرفون جيداً كم إيمان وتقوى وضمير نصر أبوزيد، لكنهم صدقوا الافتراءات... تفاصيل كثيرة يحتويها هذا الكتاب المهم عن أستاذ جامعة حاول أن يحلق بجناحيه فهجمت عليه الضباع وهو مازال يتأمل السماء.