الأقباط متحدون - خلف خطوط الذاكرة
  • ٢٠:٤٠
  • الثلاثاء , ١٦ ابريل ٢٠٢٤
English version

خلف خطوط الذاكرة

مقالات مختارة | عاطف بشاى

٤٣: ١١ ص +00:00 UTC

الثلاثاء ١٦ ابريل ٢٠٢٤

عاطف بشاى
عاطف بشاى

 عاطف بشاى

«بطل هذه الرواية متهم بحيازة عقل.. مُدان بجريمة تفجير سؤال وقف خلف خطوط الذاكرة وأطلق الرصاص يتمنى أن يكون ما اصطاده من الأحراش قابلًا للهضم وألا يكون تاريخ صلاحيته منتهيًا».. العبارات السابقة التى وردت فى مقدمة كتاب المفكر الكبير «خالد منتصر» (خلف خطوط الذاكرة- سيرة ذاتية لجيل الآمال المؤجلة)، هى خلاصة الخلاصة فى تجربة سنوات عمر مدهشة.. وحياة عقل وثاب وجسور وضمير نفس نبيلة وخيال روح حالمة.. وقلم ثائر يحمل راية تنوير تنضح بغضب مستعر وتتزين بمنطق علمى فصيح فى زمن ضنين وشاحب محتشد بعورات بشر فاضحة ومثالب أفكار متطرفة ومتدنية ومعالم قبح ودمامة مستشرية.. إنه عاشق حضارة يخشى أن تغرب وتذوى ورسالة حب يناهض كراهية مقيتة وشراسة جهل مطبق تتغنى بتراث متراجع ومسلمات طاغية ووثائق تخلف عاتية.. وهو يستهل مؤلفه بنعى حال الذاكرة التى تتآكل يومًا بعد يوم حتى إنه يعتبرها عدوًّا لا صديقًا.. ولكنه يحاول جاهدًا أن يصطاد ما تبقى من فُتاتها... والحقيقة أنى أزعم أن ما يعلنه المؤلف هو كم هائل من المواقف والأحداث والمشاهد المتعاقبة بالغة الثراء والتنوع رائعة المحتوى والمضمون تفجر عشرات القضايا السياسية والفكرية والفنية والإنسانية.. العامة والشخصية.. وتمثل سياحة دفاقة وشاملة فى كل مناحى الحياة.. خبرها وعايشها وخاض غمارها وانخرط مع رفاق الرحلة فى نسجها والمشاركة فى صراعاتها ووقائعها ومفارقتها وتحدياتها وملابساتها وباشر تأملها وتحليلها فى حصاد شائق ومؤثر.. فأى ذاكرة تلك التى يشكو منها.. أو يعاديها بينما هو يسرد تفاصيل تفاصيلها وذكريات المعارك الضارية التى خاضها.. والأسوار العالية والشائكة التى قفز فوقها وفجر من خلالها بشجاعة ونبل المسكوت عنه وظواهر مقاومة وفضح خبايا توجهات جحافل الظلاميين وعناكب التكفيريين وأعداء الحياة وأسقط عن وجوههم أقنعة التدثر بالدين وهو براء منهم.

 

لم تكن تلك الحياة العامرة بالنضال والحصاد الوفير المثمر العظيم مجرد لغو أو ثرثرة جوفاء أو ذكريات متهافتة تملها الزوجة ويختنق بسردها الأولاد فلذات الأكباد.. مما يدفعه أحيانًا أن يرمى بندقيته ويستسلم بنعاس كهفه الآمن.. لكنه ما يلبث أن يعود فينصح نفسه بأن يطلق الرصاص على أرانب الذاكرة ويتصيدها أرنبًا أرنبًا.. وهى مازالت تنتفض وترتعش فى دفء ما قبل النهاية فإذا ما كانت الذاكرة عدوًا أثيمًا فإنه ينبغى علينا ألا نعقد معها هدنة أو معاهدة صلح.. بل يجب أن نقف خلف حصونها التى تتهاوى بفعل الزمن، وأن نواصل الصراخ ونتمسك بدخان السراب.. وأعلن «خالد منتصر» فى مقدمته للكتاب قراره بمواصلة الصياح التحريضى رافعًا شعار «طاردوا ذكرياتكم قبل أن تُطاردوا فى قبو النسيان».. فكانت تلك المطاردة المثيرة أهم وأجل وأكثر تفردًا عن تلك الحقبة المريرة التى كان شاهدًا عليها وحاضرًا على مسرحها ومعايشًا بعمق ومنغمسًا فى تفاصيلها العاصفة وتداعياتها المؤلمة، وعبرت عنها ذاكرته المتوهجة فى فصل من الكتاب بعنوان «الشوارع حواديت»، يرصد فيها بداية بزوغ، ثم سيطرة وتغول الجماعات الإسلامية من خلال تواتر الأحداث فى الحياة الجامعية.

 

أما وقد عاصرت وقتها أحداث تلك المرحلة، وكنت طالبًا وقتها بالمعهد العالى للسينما.. فإن ذكريات ما سطره عما جرى عند عرض فيلم «خلى بالك من زوزو» 1972 تتوافق فى ملابساتها مع رؤيتى للواقع المرتبطة بها.. فحينما كانت السماء ملبدة بالغيوم، وشبح هزيمة 67 مازال جاثمًا على الصدور.. ومر عام الحسم بسحابته المضللة، واليأس والقنوط قد سيطر على ملامح الوجوه وكاد يعصف برجاء العبور.. ظهر فجأة وجه شاب وسيم ذو بشرة بيضاء وعينين فيروزتين لهما بريق أخاذ.. هو «حسين فهمى» العائد من بعثته بأمريكا يدرس لنا بالمعهد.. ويتحلق حوله مجموعة من طلبة المعهد يلوحون فى وجهه فى غضب جامح يكيلون له الاتهامات التى تتصل بتزييف الوعى الجماهيرى وتدمير الحس الوطنى وتحطيم الروح المعنوية للشباب الثائر ضد الهزيمة وتلطيخ ثوب الحرم الجامعى الطاهر بوجود الراقصة اللولبية الماجنة «زوزو» فى رحابه.. والانتصار لهز البطن فى مواجهة العلم والدين والإساءة إلى عقل ووجدان المتلقى ومحاولة إلهاء الجماهير عن فداحة هزيمة 67.. وكان الناقد الراحل «سامى السلامونى» قد أدار ندوة بجامعة القاهرة احتشد لها مئات الطلبة من كليات مختلفة ندد فيها بالفيلم ودعا إلى مسيرة احتجاج تتحرك من الجامعة إلى سينما «أوبرا» حيث يعرض الفيلم.

 

 

لم أنتبه وقتها كما أرى- وكما يرى خالد متتصر- أن نموذج الطالب الذى جسده فى الفيلم «محيى إسماعيل» صاحب صيحة جمعاء قد بدأ فى التسلل إلى الجامعة مشكلًا تيارًا رهيبًا وخطرًا داهمًا سوف «يذيق الجامعة ومصر السم الزعاف»، وأنا شخصيًا لم أرَ فيه سوى نمط كاريكاتورى هامشى يثير الضحك والسخرية، أراد «حسن الإمام» أن يقدمه بشكل هزلى شأنه شأن نماذج أخرى بالفيلم مثل «سمير غانم» و«نبيلة السيد» و«وحيد سيف» و«شفيق جلال»، هدفهم زغزغة الجماهير وإضحاكهم للترفيه عنهم وتسليتهم لتحمل وطأة ميلودراما زاعقة.. لكن الحقيقة كما عبَّر «خالد منتصر» فى كتابه أن «صلاح جاهين» «أراد أن يعلن أن هؤلاء العتاة الإرهابيين قادمون، وسوف يسممون بئر الأحلام.. ويُجهضون كل أجنة المستقبل.. فتخرج من أرحامهم مسوخ الغلظة والجلافة وجفاف المشاعر.. لقد انتصر فى هذا الفيلم للبنت المصرية (الفتاة المثالية)، انتصر للبهجة والرقص والغناء والحب.. كان شبه متأكد أن كل تلك المشاعر الراقية الجميلة والنبيلة سيدهسها قوم رضعوا حليب العنف والإقصاء من أثداء تراث قتل فيهم كل ما هو فن وخير وجمال».

نقلا عن المصرى اليوم

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع