الأقباط متحدون - الجمال المدهش.. بصمة أرمنية مستمرة في المجتمع المصري
  • ٠٩:٤١
  • الاثنين , ١٤ يونيو ٢٠٢١
English version

الجمال المدهش.. بصمة أرمنية مستمرة في المجتمع المصري

منوعات | العرب

٤٠: ١٠ ص +00:00 UTC

الاثنين ١٤ يونيو ٢٠٢١

بصمة أرمنية مستمرة في المجتمع المصري
بصمة أرمنية مستمرة في المجتمع المصري

 شغف المصريين بالأرمن يتزايد يوما بعد يوم على الصعيد الاجتماعي تحديدا، ولم تتأثر نظرتهم لهم بتقلبات التطورات السياسية. وفي المقابل يحتفظ الأرمن بعلاقة قوية راسخة في الوجدان العام، فمن تمصّروا منهم مع الزمن أكدوا أنهم لا يقلّون حبّا لمصر عن غيرهم من المصريين.

 
القاهرة - لم يستغرب الناس أن يكون مصمم شعار موكب ملوك الفراعنة الذي انطلق في القاهرة مطلع شهر أبريل وأبهَرَ المشاهدين في أنحاء العالم مصريا أرمنيا، هو الفنان كريم مختيجيان. ولم يستغربوا أيضا مما جرى قبلها بأيام في دبي عندما احتفى جمهور الفن بمعرض النحات المصري الأرمني أرمن أغوب، والمسمّى “البساطة معقدة”، وقدم فيه قطعا نحتية من الرخام الناعم والبازلت، بجاذبية أثارت جدلا بين متابعي فن النحت، نظرا للإتقان الشديد والامتزاج اللافت بين الثقافتين المصرية والأرمنية في المعروضات.
 
ليس “مختيجيان” ولا “آغوب” سوى تكرار لفكرة براعة الأرمن وقدرتهم على صناعة الجمال المُدهش، انطلاقا من شعور قوي بامتزاج الهويتين المصرية والأرمنية معا ليُصبح لفظ “مصري – أرمني” أو “أرمني – مصري” معتادا في المجتمع، ومعبّرا عن الجمال والموهبة والإتقان.
 
ومن هنا لا وجه للغرابة في تميّز إبداعي صاحبه من أصل أرمني، لأن التاريخ يشير إلى أنهم كانوا أكثر الجاليات الأجنبية انخراطا في المجتمع المصري وتأثيرا في الفنون والحرف والصناعات اليدوية.
 
ورغم أن أعدادهم لم تكن كبيرة مثل اليونانيين والشوام في وقت سابق، إلا أن تأثيرهم كان شديد العمق، وتجاوز حدود المدن الكبرى، مع انتشارهم في أنحاء مختلفة بمصر، وهو ما يعزز فكرة التلاقي المجتمعي لدرجة الذوبان.
 
بصمات لا تنكر
كافة الأرمن في مصر حصلوا على الجنسية المصرية، وهو ما ميزهم عن باقي الأرمن في الكثير من البلدان
 
قال الباحث والروائي المصري المتخصص في تاريخ الأرمن سمير زكي لـ”العرب”، “نجح الأرمن على مدى أجيال متتالية في ترك بصمات دامغة على الكثير من نواحي الفن والإبداع بمصر وباتوا نموذجا للجمال والإتقان”.
 
وأضاف أن المآسي التي تعرض لها الأرمن، ومحاولات إبادتهم في فترات سابقة على يد الخلافة العثمانية ولّدت لديهم رد فعل مقاوم، جعلهم يتحفزون دوما للتألق ويسعون إلى التفوق في جميع المجتمعات التي انتقلوا إليها.
 
وتتسم الشخصية الأرمنية بالصلابة والحرص على التفرد، وهو ما ظهر في إتقانهم لحروف يدوية وصناعات وفنون إبداعية عديدة ومتنوعة، كأنهم يؤكدون للعالم كله أنهم أقوى من الإبادة وأعصى على الانقراض.
 
كما يتميز الأرمني بسرعة التعلم والذكاء الشديد والاهتمام بالثقافات المغايرة وقبولها، والميل إلى العمل الإنتاجي لا التجاري، وعدم التحرج من الأصول الحرفية للبعض، حتى أن أسماء بعض العائلات الكبرى بين الأرمن المصريين مستمدة في الأساس من مهن يدوية احترفها الأجداد والنازحون الأوائل، مثلما هو الحال مع ماسيان نسبة إلى مهنة تلميع الماس، وحديديان نسبة إلى صناعة الحديد، وترزيان نسبة إلى حياكة الملابس، وغيرها.
 
كما أن طبيعة بعض المجتمعات لعبت دورا في تأكيد ذلك التوجه والتوافق معه، فالمجتمع المصري برحابته وتعدد أطيافه ووسطية شعبه، كان ولا يزال مناسبا لاستيعاب نبوغ وتفوق الأرمن فنيا وحرفيا وثقافيا، وامتصاص تأثيراتهم المختلفة وهضمها لتصبح جزءا من سمات المجتمع المصري.
 
ويتصور البعض أن قرب الصفات الإنسانية بين الأرمن والمصريين، جعلهم أكثر قدرة على الانسجام مع الثقافة العامة التي لم تخضع لتيارات التغريب، وبدت عصية على تيارات التعصب الديني خلال القرن التاسع عشر الميلادي، والنصف الأول من القرن العشرين، ما جعل الأرمن يفلتون من نظرة الازدراء التي واجهوها في دول أخرى كانت تابعة للدولة العثمانية.
 
ميراث من التعايش
الأرمنية ميرال ماهيليان حسناء موكب المومياوات 
الأرمنية ميرال ماهيليان حسناء موكب المومياوات 
بحسب دراسة “الأرمن في مصر” للدكتور محمد رفعت الإمام أستاذ التاريخ بجامعة دمنهور، شمال القاهرة، فقد نزح الأرمن إلى مصر منذ القرن الرابع عشر الميلادي، وتدفقوا بكثرة خلال عهد محمد علي، سعيا إلى المشاركة في مشروعاته التحديثية، ما دفعه إلى الاستعانة بهم في الكثير من الوظائف والصناعات. من أبرز هؤلاء بوغوس يوسفيان الذي تولى مسؤولية إدارة ديوان التجارة في مصر سنة 1819، لكن أشهر الأرمن الذين عملوا في مصر عموما كان نوبار نوباريان باشا الذي تولى منصب أول رئيس وزراء في تاريخ مصر الحديث.
 
سكن الكثير من الأرمن في منطقة بين الصورين بوسط القاهرة، وبنوا هناك أول مدرسة لهم، كما أقاموا كنيسة وأسسوا مكتبا لرعاية مصالحهم في القاهرة عام 1906، ثم تزايدت أعدادهم في مصر مرة أخرى بعد حرب الإبادة التركية، فأسسوا مدرسة خاصة بهم في مدينة بورسعيد، شرق القاهرة، وانتشروا في كافة أنحاء البلاد.
 
شارك الأرمن مع مجموعة من البلجيك القاطنين بمصر خلال بدايات القرن العشرين في تصميم وإنشاء حي مصر الجديدة، وهو أحد أهم أحياء القاهرة وتركوا نماذج معمارية شديدة الجمال والجاذبية تبهر الناس حتى الآن.
 
الشخصية الأرمنية تتسم بالصلابة والحرص على التفرد، وهو ما ظهر في إتقانهم لحروف يدوية وصناعات وفنون إبداعية عديدة ومتنوعة
 
كما ساهم الأرمن في تقديم نماذج ريادة وتميز في صناعات عديدة، مثل الطباعة، الزنكوغراف، المعادن، السجائر، صناعة الأحذية، والملابس، ولعبوا دورا مهمّا في تطور الصحافة وفن المسرح والسينما والتصوير الفوتوغرافي.
 
وأشار الباحث سمير زكي لـ”العرب” إلى أن براعة الأرمن في الحرف اليدوية، خاصة صناعة المشغولات الذهبية، حافظت على أسس الحرفة من الاندثار عقب هجرة اليهود المصريين منتصف الخمسينات والذين كانوا يسيطرون عليها سيطرة كبيرة.
 
كان من اللافت أن كافة الأرمن في مصر حصلوا في ما بعد على الجنسية واستخرجوا جوازات سفر مصرية، وهو ما ميزهم عن باقي الأرمن في الكثير من البلدان التي لجأوا إليها، حيث أطلقت عليهم هناك صفة لاجئين أرمن.
 
كان اعتزازهم بالانتماء إلى مصر، مجتمعيا وثقافيا وروحيا وتاريخيا، لذا فكل الأرمن المصريين يعتزون بانتمائهم إلى هذا البلد، ويتحدثون اللغة العربية باللهجة المصرية بطلاقة، رغم محافظتهم على اللغة الأرمينية، وإتقانهم لعدد آخر من اللغات الأجنبية.
 
وبشكل عام استفاد المصريون من تعايشهم مع الأرمن بينهم في الوقوف على أسرار عديدة للكثير من الصناعات الحرفية، واستمدوا الرغبة في الإتقان والاهتمام بالصورة النهائية للمنتج، واكتسبوا منهم سمات المرح في التعامل وحب الطبيعة والإقبال على الحياة، والسعي الدائم إلى التجديد والتحديث.
 
التلقيح الفني
قال أرمن مظلوميان رئيس الهيئة الوطنية الأرمينية بالقاهرة لـ”العرب”، إن العلاقات المتميزة هي امتداد للتلاقي التاريخي المبكر بين شعبين لديهما طاقة تسامح ومحبة للإبداع والفن، وتولّد عن امتزاج الثقافتين تطور فني مذهل حمل الكثير من التحرر وقدم العديد من محاولات التجريب في الفنون الجميلة.
 
وأكد الباحث والناقد في مجال الفنون الجميلة علي حامد، أن الجالية الأرمنية بمصر لعبت دورا في تطوير فنون الرسم والنحت والتصوير الفوتوغرافي من خلال مساهمات فنانين بارزين مثلوا ذروة الإبداع الأرمني في مصر.
 
ويصعب التعرف على خبايا الفن المصري بعيدا عن المصور الأرمني يرفانت ديرمجيان (1870 ـ 1938)، وكان له الفضل الأول في تصوير وجوه المصريين في بدايات القرن العشرين من شرائح مختلفة بواقعية شديدة.
 
أرمن مظلوميان: امتزاج الثقافتين ولد تطورا فنيا مذهلا حمل الكثير من التحرر
 
لا يُمكن التقليل من أدوار فنانين أرمن متميزين من بعده مثل ديران غرابيديان، وبارويير بارديزيان، وبوزانت جوجامانيان، وأونيج أفيديسيان، وكريكور مجرديتشيان، ومن النساء الفنانة ساتينج تشاكر التي كان لها فضل كبير في تصوير الفلاحات المصريات.
 
وفي مجال الكاريكاتير برز اسم الفنان الشهير ألكسندر صاروخان، وهو أشهر شخصية أرمنية في الصحافة المصرية وعمل في مجلات “السينما” و”روزاليوسف”، و”آخر ساعة”، إلى جانب صحف “الكشكول”، “الصرخة”، و”أخبار اليوم”.
 
وأوضح علي حامد لـ”العرب”، أن المساهمات الأرمنية في الفن التشكيلي تنوعت بين المدرسة الكلاسيكية والواقعية والتعبيرية، لكنها تميزت جميعا باهتمام واضح بالطبيعة الخلابة وبث ألوان البهجة والمرح، ربما كنوع من المقاومة للحزن والوجع الإنساني.
 
كما تميّزت أعمالهم بالبساطة الشديدة وعدم التعقيد، ودللت على امتزاجهم الواضح بمختلف فئات المجتمع في الحضر والريف، إلى جانب مسحة تسامح وتقبّل للآخر تتضح في تصوير طقوس المولد النبوي وشهر رمضان، وعيد الفطر لدى المسلمين.
 
هناك لمحات سُخرية واضحة في بعض أعمال الأرمن، وهي أيضا تصبّ في فكرة اقتران الجمال بالبهجة والميل إلى المرح، وهي من الآثار المقاومة للمأساة.
 
ويُمكن القول إن إسهامات الفنانين الأرمن لعبت دورا في تحرير خيال أقرانهم من المصريين.
 
وحفّز اهتمام الفنانين الأرمن بتصوير المرأة وتقديمها بشكل متحضر ودون افتعال، تيار إنصاف المرأة المصرية بدءا من الدعوة إلى تعليمها على يد رفاعة الطهطاوي، مرورا بتبني مشاركتها للحياة والعمل علي يد قاسم أمين وهدى شعراوي، وحتى السماح لها بالانتخاب والترشح والعمل الوزاري في ما بعد ثورة يوليو 1952.
 
ضد التشويه
إذا كانت فترة السبعينات وما تلاها شهدت مدا أصوليا واضحا في المجتمع المصري، سعى إلى محاولة تشويه صورة الأرمن في العقل الجمعي، في ظل تبريرات الإسلاميين لمذابح دولة الخلافة العثمانية، فإن الحصيلة النهائية لذلك لم تفارق التصور الشعبوي السائد باعتبار الأرمن نموذجا للجمال واللطف.
 
وأشار أحمد جلال الدين الباحث في المركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة، إلى أن سبب ذلك يرجع إلى نبوغ وتألق فنانات جميلات من أصول أرمنية في مصر مثل الممثلات نيللي ولبلبة وميمي جمال والمطربة أنوشكا.
 
وأضاف أن إعجاب ورضا جمهور الفن العام في مصر عن فنانين بأعينهم يمتد إلى أصول هؤلاء الفنانين، خاصة إن كانت تلك الأصول معلنة، على ما انتشر في بعض الحكايات الشعبية من روايات تدلل على حُسن فتيات الأرمن وخفة أرواحهن وبراءة ملامحهن، ما جعل الفتاة الأرمنية فتاة أحلام بعض الشباب من المصريين في بعض الأزمنة.
 
لذلك تبقى الإسهامات المضيئة للأرمن دافعا إلى استمرار الصورة الذهنية الإيجابية في أذهان فئات عديدة من المصريين ومرتكز للإرادة والمقاومة والتفرد.
 
ورغم أن حضور الأرمن في الرواية المصرية الكلاسيكية ظل خافتا بحسب الناقد الأدبي مصطفى بيومي، حتى أن نجيب محفوظ وجيل الرواد لم يقدموا شخصية أرمنية محددة، إلا أن بعض الكتابات الروائية في مصر، خاصة من جيل الشباب والوسط، اتخذت من مأساة الأرمن قاعدة انطلاق لنسج عوالم سرد متنوعة حولها من أهمها حديثا رواية “العشاء الأخير” لميسرة الدندراوي ورواية “موت منظم” لأحمد مجدي همام.